الأوركسترا والكورال الوطني السعودي- رؤية فنية عالمية تنطلق من التراث

المؤلف: نجيب يماني10.11.2025
الأوركسترا والكورال الوطني السعودي- رؤية فنية عالمية تنطلق من التراث

يا لها من "رؤية" مباركة! لقد أعتقتنا من قيود الماضي، وانتشلتنا من براثن ثقافة الموت، وأعادتنا إلى فطرتنا السليمة مع "جودة الحياة"، وذلك عبر برنامجها الثري والمتنوع الذي يزخر بمصادر البهجة، ونوافذ المتعة النقية، ومناهل إدراك الإنسان السويّ الذي لطخته "الصحوة"، وشوهت هويته خطابات التطرف والتشدد والانغلاق. عندما تحظى بفرصة الجلوس في رحاب فرقة "الأوركسترا والكورال الوطني السعودي"، ستتجلى لك هذه المعاني السامية بأبهى صورها. ستدرك حجم الموهبة الكامنة التي انفجرت، والعمر الثمين الذي أضعناه في مناقشات عقيمة حول مشروعية الموسيقى. في كنف هذه الفرقة الموسيقية المتميزة، تتجلى أمام ناظريك عبقرية الإنسان السعودي، وهو يطلق العنان لطاقاته الإبداعية في عالم الموسيقى والغناء. شباب يانع، وفتيات متألقات بمواهب فذة، وأصوات آسرة، وعازفين بارعين، يروضون الآلات ليخرجوا منها ألحانًا متناغمة تنسجم مع تراث عريق ضارب بجذوره في عمق الذاكرة السعودية. إنها شهادة حية على حضارة متنوعة الأشكال، ومتحدة في الطرب في ربوع هذا الوطن المعطاء، لترسم صورة مشرقة تعبر عن هويتنا الوطنية أصدق تعبير. صحيح أنها حديثة النشأة، إذ انطلقت تحت رعاية هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة السعودية في عام 2021، ولكن هدفها نبيل وغاياتها سامية، ألا وهي تمثيل المملكة في المحافل المحلية والدولية. إنه لطموح يستحق الفخر والاحتفاء والإشادة! هل رأيتهم وهم يصدحون بأنغامهم العذبة، ويشنفون الآذان بأطرب الألحان؟ لقد بدأوا رحلتهم الإبداعية المدهشة من باريس، وفي اليوم السابع من شهر أكتوبر لعام 2022م، اعتلى خشبة المسرح اثنان وعشرون عازفًا وعازفة سعوديين، يرافقهم أربعون مغنيًا ومغنية، وبمشاركة الأوركسترا الفرنسية الفيلهارمونية. حينها أصغت القاعة بإنصات لعزف منفرد للأوركسترا الفيلهارمونية الفرنسية وهي تقدم مقطوعة "مدينة جدة" للمؤلف الموسيقي الإيطالي الكلاسيكي برناردي، وعزف منفرد لأغانٍ فلكلورية سعودية من مختلف الفنون الشعبية كالمجرور والمزمار والخبيتي والسامري. لقد كانت ليلة ساحرة، عبر خلالها الفن السعودي إلى آفاق واسعة، وقرع آذانًا طالما رزحت تحت وطأة الصور النمطية، والفهم الخاطئ الذي أفرزه فكر "الصحوة". تركت تلك الرحلة أثرًا طيبًا، ومنحت الفرقة دافعًا قويًا للمضي قدمًا نحو أقصى حدود الإبداع، وأسمى مراتب التميز. واستمرت تلك الرحلة المباركة إلى مدينة مكسيكو في المكسيك، ثم نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كلتا المدينتين تجلى الإبداع السعودي بأبهى صوره، فاعلًا ومتفاعلًا، تاركًا بصمة لا تُمحى، ومقدمًا الصورة الأصدق، والفهم الصحيح لماهية الإنسان السعودي، وحضارته، وروحه، وذوقه الرفيع المتناغم مع روح العالم التواق إلى السلام والأمن، وإعلاء قيم الحق والجمال. وكأنهم يستلهمون كلمات الشاعر العراقي معروف الرصافي: إنْ رمتَ عيشًا ناعمًا ورقِيقا فاسْلُكْ إليه من الفنونِ طريقا واجْعلْ حياتَكَ غضّةً بالشِّعرِ والتمثيلِ والتصويرِ والموسيقا تلكَ الفنونُ المُشتهاةُ هي التي غصنُ الحياة بها يكون وريقا وهي التي تجلو النفوس فتَمتَلي منها الوجوه تلألؤًا وبريقا وهي التي بمذاقها ومشاقها يُمسي الغليظ من الطباع رقيقا نعم، هذا هو شعوري تجاه هذه الفرقة التي ترفع الرأس فخرًا، وتمنحك القدرة على التعبير عن اعتزازك بهويتك السعودية في كل مكان وزمان. كل ما عليك فعله هو أن توسع نطاق رؤيتك، وأن تصغي بكل جوارحك لتشاهد وتستمع إلى ما قدموه في البحرين، خلال مشاركتهم في مهرجانها الدولي بالمنامة في أكتوبر 2023، ثم في عاصمة الضباب لندن، والتي كانت محطتهم الرابعة في جولتهم المتألقة، حيث حلّوا بمسرح سنترل هول وستمنستر بمشاركة مائة موسيقي ومؤدٍّ، وقدموا ثلاثة ألوان من التراث الغنائي السعودي وهي: السامري والينبعاوي وفن الربش، كما أدوا أغنية "Roiling in the Deep" بصوت الفنانة أديل باللون السعودي. كان الختام مذهلًا عندما اكتمل الإبداع بأداء مشترك بين الأوركسترا السعودية ونظيرتها الفلهارمونية الملكية البريطانية. ثم كانت رحلة طوكيو في 22 نوفمبر 2024 على مسرح "طوكيو أوبرا سيتي"، وكان المشهد بديعًا ومبهجًا، ومؤسسًا لوعي جديد، وصورة مختلفة عن المملكة وثقافتها وفنونها وحضارتها. ولا يمكننا أن ننسى مشاركة وزارة الثقافة بقائد فريق الكورال في الأوركسترا الوطنية للموسيقى والكورال، في أوركسترا مجموعة العشرين (كنز الألحان "Sur Vasudha")، التي أقيمت في مركز تيسير التجارة بمدينة فاراناسي الهندية، خلال فترة رئاسة الهند لاجتماعات المجموعة. إن هذا التجوال السريع في مسيرة هذه الفرقة، قصيرة العمر وعظيمة العطاء، يرفع سقف توقعاتنا إلى آفاق أرحب، ويدفعنا إلى التطلع إلى وجود فروع مماثلة لها في المدن الكبرى ذات التأثير الفني والجماهيري، وأن تؤسس تواجدًا فاعلًا على المستوى الشعبي، من خلال حفلات مفتوحة ومكثفة، لرفع مستوى الثقافة الموسيقية لدى شريحة واسعة من المجتمع، التي لا تزال عالقة في دائرة الجدل الفقهي حول الموسيقى. كما نأمل أن يتم دمج الآلات الموسيقية السعودية ضمن مجموعتها الموسيقية، ممّا يضفي عليها بعدًا عالميًا، ويبرز ما تتمتع به من نغمات تثري ثقافة الموسيقى في العالم، وأن تزيد من نطاق انتشارها بكل الوسائل المتاحة، حتى تصبح ثقافة مجتمع بأكمله، يدرك مع من أدرك بأن الموسيقى: لا تقول كلاماً، ولكنها تردم الهاوية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تفتح الطرقات ما بين مركز القلب وأطرافه النائية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تصحب الروح وهي تعتلي القافية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تفرش الدرب للقدم الحافية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تمنح الصحة والعافية.. شكرًا بحجم السماء، وبطاقة الفرح لفرقة "الأوركسترا والكورال الوطني السعودي" على ما أنجزت، وتحية إجلال للقائمين عليها، وآمال عظام نسطرها وننتظر المزيد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة